تزخر حياتنا بالصدف الجميلة والهبات الرائعة التي تجعلنا سعداء ومتشوقين للمواصلة رغم كل المطبات والحفر، صدف تدمجنا في مجتمعات جديدة وتوصل أصواتنا للمختلف، ومن بين الصدف الجميلة التي غمرتني بكل دفء، اكتشافي للهجينة البيروتية كما تصف نفسها، تاليا رحمة.
فقد كانت الاكتشاف الأروع والأجمل، فتاليا كانت صوتي بالإنجليزية وناقل أخبار وقصص بلدي التي أكتب كمساهم بالموقع العربي للأصوات العالمية إلى الجمهور العالمي الناطق بالإنجليزية، في البداية ذهلت لاهتمامها بترجمة كل ما أكتب عن موريتانيا وكان ذلك مبعث إعجابي الأول بها، فهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة لي، أنا الذي أتوق لأسمع صوتي لأكبر جمهور ممكن، لنبدأ الحديث المتواصل عبر وسائط الشبكة لننتقل إلى أصدقاء نتوق للقاء، كنا نتحدث عن كل شيء نمزح معا ونتبادل قصصنا وقصص بلدينا ننزعج من التخلف ونتقاسم الحلم في أوطان تزخر بالأمن والديمقراطية، لكن دائما كان حديثنا ينتهي بالتمني باللقاء على أرض الواقع فقد مللنا الحديث الافتراضي، وتم الأمر بعد زمن طويل، فقد كان ملتقى المدونين العرب الذي عقد في يناير 2014 بعمان الفرصة الذهبية لتخمر الصداقة.
كان لقائنا الأول في استقبال فندق اللاند مارك حميمي وحالم لم نضع أي حواجز بيننا وكنا كأننا نتقابل آلاف المرات بل عشنا مع بعضنا اَلاف السنين، وقد قضينا مع الأصدقاء المشاركين في المؤتمر أجمل اللحظات، ضحكنا وأكلنا معًا، عشنا أجمل الأوقات، لكن كما يقال الأوقات الحلوة والجميلة تمر بسرعة، واليوم ما زلت أريد أن يتكرر اللقاء فقد سئمت من الافتراضي!
مؤخرًا كدنا نحقق اللقاء الثاني في بيروت لكن بعض الظروف منعتنا من ذلك، وهو أمر أحزنني فقد كنت أتوق لأن أغوص في الأكل اللبناني الذي وعدتني به تاليا، فهي أعدت في بيتها مؤدبة رائعة لفريق الأصوات العالمية الحاضر للمنتدى العربي لحوكمة الأنترنت وكان من المفترض أن أكون من ضمن الحاضرين.
تعمل تاليا حاليا كمنسقة اتصال وتواصل في جمعية دولية، وقد عملت على مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي امتد لثلاث سنوات، ولكن عقدها ينتهي في رأس السنة – فلنبدأ إذن من الاَن حملة من أجل تشغيل تاليا-طبيعة عمل تاليا تشبه الأصوات العالمية لحد ما لكثرة الجنسيات التي تتعامل معها، وكذلك تجعلها كثيرة السفر ومما يعجبها فيه أنا تعلمت منه كثيرًا وجعها تخرج من الشرنقة اللبنانية.
تحب تاليا السفر وقد سافرت كثيرًا لكنها مازالت تتوق لرحلات أكثر، وتحب أن تزور أمريكا اللاتينية، من الأرجنتين الى البرازيل والمكسيك، وكذلك البلدان التي لا تقع دائرة التغطية مثل بلدي موريتانيا وغواتيمالا والبارغواي وكوستاريكا والبيرو والأوروغواي.
لتاليا قصة طويلة ومضحكة مع الكتب، فقد عشقت تاليا كتابين للكاتب الأفغاني خالد حسيني” The Kite Runner” وOne Thousand Splendid Suns””وسببا لها حالة شديدة من البكاء، لكنها صدمت في كتابه الثالث ” And the Mountains Echoed”فلم يعجبها رغم أن أحدى أبطاله تحمل اسم تاليا، وقد أثر فيها كتابين باللغة الفرنسية، أولهما لكاتب يعتبر من أهم الكتاب في لغة موليير، وهو غوستاف فلوبير، أما الكتاب فهو بعنوان مدام بوفاري، وقد قرأته في مرحلة المراهقة، و يتحدث عن شاب عاش طول عمره في ظل والدته وبعدها تزوج سيدة قضت عمرها في قراءة الكتب فباتت تعيش في عالم القصص والخيال فوجدت صعوبة في الـتأقلم مع واقعها خصوصًا أن زوجها كان شخص عادي، فأقدمت على الانتحار، وقد أثر هذا الكتاب فيها بشكل كبير حتى أنها توقفت عن القراءة لفترة خوفا أن تؤول بها الحال إلى وضع مدام بوفاري، خصوصا أنها شخص يشرد بسرعة ويحلم وضح النهار ولا تزال تاليا تخاف طيف هذا الكتاب، وقد أثر فيها أيضا كتاب آخر طالعته في سن 14 للكاتب الفرنسي Alain Fournier يحمل عنوان” Le Grand Mealnes”،وتقول تاليا أنها لشدة تأثرها به لم تعاود قراءته كحالتها مع المقدسات ،وتقول أن قصته تشبه قصتها، من جانب الترحال وعدم الاستقرار، أثر كتاب الأمير لماكيافيلي في تاليا أيضا، وتعشق ايضًا Guy de Maupassant الذي يتحدث عن الجنون وتخجل تاليا من الاعتراف بأنها لم تقرأ الأمير الصغير لسانت اكزوبيري، يغلب على لائحة تاليا الطابع الفرنكفوني وذلك ناتج لتنشئها لكنها معجبة بكتاب بنات الرياض.
لتاليا قصة مضحكة من الاسماء فمن المفارقة أن اسم عائلة والد تاليا وأمها في غاية التناقض فأمها من عائلة حرب وأباها من عائلة رحمة!
تقول تاليا عن نفسها:” صبية لبنانية تجتمع فيها التناقضات بدءًا من اسمها وصولًا الى الحي الشعبي الذي نشأت فيه ومن ثمّ المدرسة الخاصة الراقية التي تعلّمت فيها
هوية هجينة من الصعب أن يتقبلها المرء في الوهلة الأولى،
فترى هذه الصبية “تاليا” تخوض “حربًا أهلية” ضد ذاتها تمامًا كالحرب الأهلية اللبنانية والتي استمرت حوالي الثلاثين عامًا وهو أيضًا وتقريبًا سنّ محسوبتكم، صاحبة هذه المدوّنة وكاتبة هذه السطور.
وكما الحرب في لبنان انتهت بمصالحة، هكذا نجحت صديقتنا في التصالح مع نفسها.”