ألمينيوم..
يقولها بكلّ سلاسةٍ ونعومة، سائق الكميون، اليوم مرّ من شارعنا ،شارعنا الكائن في مدينةٍ على كتف الكاريبي، في الشمال الشرقي من أحد البلاد اللاتينية البعيدة جداً عن ضيعتنا، ضيعتنا التي تقع في أحد البلاد البعيدة أيضا والحزينة جداً.كذلك.
بينما كنت مستلقيةً أنتظر أن تغفو طفلتي سمعته، ابتسمت ، ابتسمتُ أكثر ، هذا الباحث عن الألمينيوم يبدو أنّه في كل مكان من هذا العالم!
هناك في ضيعتنا.. الصوت المبحوح المُزنّر بالضجيج المنبعث من مذياع الشاحنة، يصل إلى كل بيوت القرية يعدّد مايريد شرائه من ربات البيوت، يطلب كل طناجرهنّ العتيقة و أطباقهنّ التي لم تعد صالحة ليسكبنَ فيها اللبن الرائب .كنا نخرج حين يتوقف ذلك السائل الغريب، في الحارة ، نخرج لنرى كم سيدفع ياترى مقابل تلك البضاعة القديمة المطعوجة أطرافها؟
كم مقابل الذكرى ؟
هنا.. مرّ الشاري ولم يوقفه أحد،قال: “ألمينيوم” هكذا بكل جمودٍ ومباشرة،مرتين أو ثلاث ،اجتازت شاحنته شارعنا دون أن تحظى بأيّّ شيء .لا طناجر ألمينيوم هنا على كتف الكاريبي ولا ذكرى.
هنا في بيتي تعيش غاردينيا رقيقة،عندما بعثت بصورتها لأمي،تمنت لو أنّ واحدةٌ فقط من بين غرساتٍ عديدة حاولت زراعتها هناك في بيتها،الأشبه بالبستان الكبير،تحمّلت الطقس،لكنّ أيّاً منها لم تعش.
لو علمَت! لم أكن أنا من زرع تلك الشجرة إنها هنا قبل أن أسكن هذا البيت . قمت بتقليمها مرتين ولكني لم أنجح في إنقاذها من المرض، لستُ خبيرة مثلها ،المنّ يأكلها .
هناك ..ليس للبيوت أسوارٌ وبوابات عالية،ليس بالأمر السيء ولاهو بجيد.
هنا تجاوز ذلك اللص كل الحديد المكدّس الشاهق وهدّدني ومسدّسه الصغير يحفر في رأسي بأن يأخذ ابنتي رهينةً إن لم أستجب لطلبه، كان يريد خزنةً ما يبحث عن واحدةٍ ملأى بما يتمنى ، لا أملك أيّ خزنةٍ في البيت ، لقد اختار المنزل الخطأ ،كدت أن أخسر الجنين يومها .
هنا ..لدي جيرانٌ كثر ،لمحتُ أحدهم صدفةً أمام البيت لم يلق ِ التحية وكذلك لم أفعل ، وأخرى طرقتُ بابها لأتعرف على المرأة التي أتشارك وإياها جداراً كاملاً من المنزل .ومن باب الإحتياط أيضا، لربما اندلع حريق في أحد المنازل خلال ساعات الوحدة أو السفر فتعلم إحدانا الأخرى برسالة نصية مثلاً ! أو ربما لأني لم أتعود كل تلك العزلة ،الوحدة أجل لأنها اختيار ، لكن العزلة غليظةٌ وإجبارية لذلك من الأفضل اختراقها دائما.
هناك يستطيع جارنا بائع الحليب أن يقتني قدر مايشاء من البقر الحلوب رغم الرائحة المزعجة التي عبقت في الحارة ، فأحدهم لم يمانع يوماً أن يستقبله ما إن أطل عليه في المساء قائلاً : أتريدها؟ بضعة أرطالٍ من الحليب تبقيت لدي ولن أتركها لتَحمَض( دبر حالك ) تتناولها ربّة البيت مبتسمة،حتى وإن لم تكن بحاجتها، لأن جارنا ذو القلب السّكر لا يذهب من الدار دون أن يُضحك سنّ أهله .لم يحدث أن تململ مرةً من زوجته التي كان عليه حملها ليذهبا معا ً على متن التراكتور الزراعي أصفر اللون إلى الأرض .كانت بدينةً لدرجة أن رجليها لم تعودا قادرتين على حملهابعد أن أعياها مرض السكر ثم السرطان لاحقاً…وكانت تحمل ذات السّكر في القلب.
هناك.. حين تنوي النوم على سطح دارك ستكون ليلةً مختلفة، عليلة َ النسمات لكن بقارص ٍ كثير ٍ ربما.يجبرك على نزول الأدراج في منتصف الليل من حدة قرصاته ولؤمها .
هنا البعوض..قاتل ..قادرٌ على قتلك بلدغةٍ واحدة .ليس كله طبعاً هو “الدينغي” فقط ،وهناك نوع جديد من ذلك البعوض المجرم يدعى”تشيكونكوجا” وتعني ” اللوي أو الإنحناء” بلغة “الكيماكوندي” وهي لهجةلمنطقة تانزانية حيث اكتشف الڤيروس لأول مرة .اسم غريب جداً .لاتحفظوه الأكادمية الملكية الإسبانية قالت أن هذه المفردة ليست موجودة في معجم اللغة الإسبانية!
هنا..ليس عليك أن تسافر ساعاتٍ طويلة لتلقى البحر .البحر هنا قريب
قريبٌ جداً لدرجة أنّه ممل .يتقيأ نباتاتٍ خضراء عند كلّ مد .
أعتقد أنه لايعني الكثير دون تلك العظيمة المنعكسة على صفحته ،تلك التي تمنحه صورتها أبعادها بريقها ، لا أحد يأخذ صوراً فوتوغرافية للمياه! الجميع يتوجه بعدساته إلى منظر غروبها الآسر هناك حيث تلتقي به ( كذباً )آخر المشهد .
تخيلو البحر دون مشهد غروب الشمس ؟
إنّه ماءٌ وحسب ..ماءٌ متموج وحسب.
هناك ..صَغُرَ الأمل وضاق الأفق واتسعت الهوّة بين الأحبة لتصبح بحجم مغامرةٍ لتحقيق ما يصفونه زوراً على أنه حلم . بينما هنا يتخذ الحلم شكله الحقيقي ويدرك الجميع أن أحلامهم المتواضعة لم تكن إلا حقوقاً لم ينالوها يوماً.. في بلدهم ..ومع ذلك فإنّ الحنين يكبر كفطر ٍ سام ومعه الألم .
>><
خروجٌ من (هناك) ليتعرى تماماً من خلال (الهنا) ،لاشيء يُرى أو يُكتشف حقيقة إلا بنقيضه .زمانين ومكانين في هذا العالم ومن يصنع تشابهاً أواختلافاً بينهما حقيقة هو تواجدنا فيهما .